الرئيسية / المقالات / مقصد حفظ النفوس

مقصد حفظ النفوس

بسم الله الرحمن الرحيم

 

مقصد حفظ النفوس

الحمد لله رب العالمين, الذي خلق الموت والحياة للبلاء, فمن أحسن فلنفسه, ومن أساء فعليها, أوجد النفس لتحقيق مراده من أداء العبادة والتوحيد, ففطر الخلق على ذلك ومحبته, إلا من اجتالتهم الشياطين فحرفتهم وأضلتهم, والصلاة والسلام على الرسول الأمين, الرحمة المهداة, من صور للناس طريق تدينهم, فوافق بين المصالح والمفاسد طلباً ودفعاً, وعزز في النفوس ما يعزز نموها وبقاءها, وثقتها بأن الدين سيعلو وإن طال الزمان وتأخر.

ورضي الله عن أصحابه جميعاً رجالاً ونساءاً, من علموا فعملوا, ومن وعَوْا مراد الله تعالى ومراد رسوله من النصوص, فمارسوا الدين وفق الشرع وحوائج العصر والواقع, دون تنطع ولا تشديد, ولا تساهل ولا تلكؤ, فأحسن الله إليهم, وجعلنا خير خلف لهم, وبعد:

فأن مما يجدر بأهل العلم الكتابة فيه, لتصحيح فهم المسلمين لما أورثهم الله من علم, ما بتنا نخشى أن يحل الفهم الخطأ مكان الفهم الصواب, ذلك أن تدخلات غير المؤهلين من الحماسيين أو المغرضين أو الجاهلين؛ -مع سكوت أهل العلم عن البيان- أدى ولا يزال يؤدي إلى حلول المعنى الخطأ مكان المعنى الصواب, وأسوأ ما بتنا نراه هذه الأيام, تلك المفاهيم التي تتعلق بالنفس المعصومة, والدم المحترم, حيث بلغ الحال في ممارسات الناس -وأخص المسلمين موضع البحث -أن صارت هذه النفس وهذا الدم, في حكم المهدر- الذي لا ثمن له ولا قيمة, بحجة التضحية لأجل الوطن أو الأرض أو العرض أو الدين أو …الخ, في حين أننا نرى ألا شيء من ذلك, وإنما هي انفعالات نفسية ينتج عنها -مع المؤثرات الخارجية- تصرف أرعن, يظن صاحبه أنه بذلك, فد امتلك الحق في كل نتيجة, ولو كانت النتائج خلاف الشرع والواقع, ذلك أنها قامت على مقدمات فاسدة موهومة, ليست إلا في ذهن أصحابها, ونتج عن ذلك سوء الظن برأي اهل العلم وغيرهم من أهل الحكمة, حتى صار الناس في شق وأهل العلم والحكمة في شق آخر, وما ذلك إلا لتخلي أهل العلم والحكمة عن البيان, أو طول السكوت الموصل إلى استقرار حكم تلك الأفعال في نفوس الناس, وأنها -بسكوتهم أو تأخرهم- صواب محض!

وعليه وبعد مشاورة بعض طلبة العلم, وددت أن أبين مدى أهمية حفظ النفس المعصومة, والدم الزاكي في دين الله تعالى, وذلك من خلال نماذج أشرح بها قاعدة عظيمة -ليس في الإسلام فقط, بل وعند جميع الخلق- قاعدة مقصد حفظ النفوس, فأقول وبالله التوفيق ومنه أستمد العون:

مهمة: قبل أن أسرد الأدلة لا بد من لفت النظر, إلى ضرورة تعظيم وتقديس النص الديني, لأنه ما جاء إلا لكمال جمال حياة الناس, قال تعالى: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعصِ الله ورسوله فقد ضلّ ضلالاً مبيناً), وقال تعالى: (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم).

1- النفس البشرية (العبد) هي من تقوم بها العبادة:

فالله عز وجل عظم النفس البشرية ابتداءاً, قال تعالى: (ولا تقتلوا النفس), وقال عز وجل: (من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً), وقال عليه الصلاة والسلام: “لزوال الدنيا أهون على الله من قتل مؤمن بغير حق”, وقال: “من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة”, وقال تعالى: (ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم), وقال عليه الصلاة والسلام: “لئن تنقض الكعبة حجراً حجراً أهون على الله من قتل امرئٍ مسلم بغير حق”.

كل هذا يؤكد لنا أمرين:

الأول: تعظيم النفس, لأن الله خلقها لنفسه -ولو كانت غير مسلمة- وما دام أنه تعظم وتعالى خلقها لنفسه, فهو يريدها ويريد بقاءها للبلاء والاختبار وإعمار الحياة -فأن البلاء للدنيا والآخرة-وما دام يريد بقاءها فأنه لا يأذن بإعدامها لأن ذلك يخالف إرادته, وما دام ذلك يخالف إرادته فهو يكره إعدامها أو التعدي عليها, وما دام كذلك فهو يغضب, وإن غضب انتقم وعذب, لأن الحق في موافقة مراده ومراد رسوله, لا فيما نحب وإن كره, فتنبه أخي لهذا فهو جد مهم, ومجانبته خطيرة غاية الخطورة, فلا تظن أن تجاوز أمره, بدعوى فعل محبوبه تعالى حسب ظنك, يرضاه ويحبه, أبداً أبداً.

إذن: فالنفس البشرية عموماً محترمة ومصانة, وإذا كان تعذيب قط ونحوه ليموت يُدخل النار, لأنها روح معظمة عند الله, وإذا كان تلويث منفعة الظل في الصيف على الناس, فيه منع شرعي أن يُبال تحته, فما بالك بروح بشرية قال الله فيها: (ولقد كرمنا بني آدم), آالله يكرم, وأنت تهين, فاجتنب الظنون الفاسدة, واتبع الحق القائم على العلم والحكمة.

وعليه: فإذا كان هذا حق النفس البشرية ولو كافرة, فكيف بحق النفس المؤمنة, ولو كانت نفسك أنت: ألا تدري أن الدين يقوم بالعبد ولولا العبد ما كان تكليف أصالة, فالله كرم النفس المؤمنة من وجهين:

الأول: إنسانيتها وأنها صورة آدم أبي البشر.

الثاني: أنها توحد الله وتعبده, فتحقق فيها قدر الله الكوني, وقدره الشرعي, فكانت أولى بالتكريم والتعظيم, سواء أكانت نفس غيرك أم نفسك.

وعليه فصور صيانة النفس كثيرة في دين الله تعالى, وأن المقصد الأول الحفاظ على بقائها ولو في ساحة القتال, لا كما يظن البعض؛ أن المقصد في القتال إزهاقها بالشهادة, فالشهادة فضل يؤتيه الله من يشاء هو لا نحن, قال تعال: (ويتخذ منكم شهداء) على أحد التفسيرين, والآن إلى النماذج دون إطالة إذ المقصود لفت النظر:

1- في قصة بدر, حيث أطنب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدعاء إلى الله تعالى, وكان من دعائه أن يبقي الله تعالى أصحاب رسوله أحياء لإقامة دينه عز وجل, فقال صلى الله عليه وسلم: “اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تُعبَد في الأرض بعد اليوم”, وهذا في القتال! يدعو بطول وبقاء حياة المقاتلين, لا أنه يدفعهم لأن يُقتلوا, وهم أشد الخلق حرصاً على الشهادة, وانظر لقوله: “فلن تُعبَد” إذ العبادة تقوم بنا, فوجودك فيه حياتان, حياتك أنت, وحياة الدين وبقاؤه.

2- قي قصة عيسى عليه السلام حين ينزل إلى الدنيا بدين محمد صلى الله عليه وسلم, ويخرج يأجوج ومأجوج, ولا قِبَل لهم به, يوحي إليه الله تعالى, الذي أمر بالجهاد وقتال الكفار, لكن, الهلاك هنا متحقق, والمقصد بهم الأول إنما هو بقاء النفس المؤمنة لبقاء الدين, فيوحي إليه الله تعالى: “أن حرز عبادي إلى الطور” أي: احفظ عبادي من الموت المحقق, فاجمعهم في الطور بعيداً عن القتلة.

3- كلنا نعرف قصة الغامدية التي حملت من الزنا, حيث جاءت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليطهرها من الذنب -وقد استحق عليها القتل- فردها رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهي تستحق الإعدام- لأجل ما في بطنها حتى تلد, فجاءته وقد ولدت, فقال ارجعي حتى يأكل, فأبقاها حية, ولم يحرص لحظة واحدة على قتلها    -مع استحقاقها لذلك- رعاية لروح بريئة في بطنها ثم حجرها, بل لما أقام عليها الحد دفع بالنفس الطيبة إلى رجل من الصحابة يربيه, فالإسلام أول من كفل حق رعاية الأبناء غير الشرعيين, رعاية لمقصد حفظ الروح, فما أعظمه من دين, شوهته تصرفات المنتسبين إليه, داعش وغيرها.

4- النجاشي لا يجرؤ على إظهار التوحيد, حفاظاً على روحه, وإبقاءاً لها تعبد الله ولو في السر, ولا ينكر الدين ذلك, بل أقره الله ورسوله, فصلى عليه حين مات.

5- قال تعالى حكاية عمن نصح موسى بالهرب من القوم الذين يريدون قتله, فما كان من موسى إلا أن هرب عليه الصلاة والسلام, -وهو رسول من الله- هرب ليحفظ روحه, قال تعالى: “يموسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك ….”, فهرب طلباً لنجاة روحه.

6- اتخاذ ما يقي من الجرح أو الموت في الحرب والقتال والجهاد, ومن ذلك:

·        حفر الخندق, لبس الخوذة, اتخاذ آلات القتال, اتخاذ اللباس الواقي, …الخ.

7- مقصد أساس الحفاظ على النفس وبقائها, ولهذا شرعت الوسائل الموصلة لذلك: (وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم), ولولا ذلك لهلكت النفس.

ومن هنا كانت إباحة المحظور والمحرم من طعام وشراب ولباس حسب الحاجة وخشية الهلاك علماً أو ظناً, ولذا كان أكل أو شرب ما حرمه الله حين خشية الهلاك, طاعة يرضاها الله تعالى ويحبها, ويكره خلافها, فكيف بمن أقدم على إزهاق روح له أو لغيره بحجة واهية, روح يريد الله بقاءها إما لإعمار الكون والدنيا أو لإعمار الدنيا والآخرة, ألا فليتق الله أولئك.

8- بل قد يكون قتل رأس الكفر أحياناً ليس مطلوباً لعدم المصلحة, فعن حذيفة رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنظر ما فعل المشركون …      -قلت: وكان ذلك في غزوة الخندق- وقال لي: إياك أن تحدث حدثاً, قال فنظرت وإذا أبو سفيان جالساً وكان رجلاً أحمر ضخماً, وكان تحت سهمي, إلا أني تذكرت أمر رسول الله …”.

فهذا بطل من أبطال الإسلام, ضد أعظم حصار ضد المسلمين, وكان رأس الكفر حينها تحت سهمه, فأبى أن يقتله لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم: لأنه لا توجد مصلحة في ذلك, لأن قتله يؤدي إلى قتل المسلمين.

9- وأختم بقصة أصحاب الكهف, فأن فيها من العبر ما لا يعلمه إلا الله تعالى, حين هربوا من قومهم خشية قتلهم, فكان قصد الشرع إلى حفظ النفس, مقدم على إهلاكها ولو في الحق (الجهاد والشهادة), فكيف بغير ذلك من الأسباب التي لم يشرعها الله تعالى.

أكتفي بهذا القدر, وفيه منفعة لمن تدبر ووُفق, والله أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

د. سميـــر مـــراد

الأحــد24/2/1437 هـ

الموافق6/12/2015 م

شاهد أيضاً

حكم قراءة القرآن أو مسه للحائض والنفساء؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *